يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية ، فأبطل الخليل عليه دليله ، وبين كثرة جهله وقلة عقله ، وألجمه الحجة ، وأوضح له طريق المحجة
قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار : وهذا الملك هو ملك بابل ، واسمه النمرود ابن كنعان بن كوش بن سام بن نوح قاله مجاهد وقال غيره : نمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح
قال مجاهد وغيره : وكان أحد ملوك الدنيا ، فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : ذو القرنين ، وسليمان والكافران : النمرود ، وبختنصر
وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة وكان طغى وبغي ، وتجبر وعتا ، وآثر الحياة الدنيا
ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع ، فحاج إبراهيم الخليل في ذلك ، وادعى لنفسه الربوبية ، فلما قال الخليل : " ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت "
قال قتادة والسدي ومحمد بن إسحاق : يعنى أنه إذا أوتى بالرجلين قد تحتم قتلهما ، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحيا وأمات الآخر
وهذا ليس بمعارضة للخليل ، بل هو كلام خارج عن مقام المناظرة ، ليس بمنع ولا بمعارضة ، بل هو تشغيب محض ، وهو انقطاع في الحقيقة ، فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها ،على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إلى وجوده : ضرورة عدم قيامها بنفسها ولا بد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة ، من خلقها وتسخيرها ، وتسيير هذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر ، وخلق هذه الحيوانات التي توجد مشاهدة ، ثم إماتتها ولهذا قال إبراهيم : " ربي الذي يحيي ويميت " فقول هذا الملك الجاهل : " أنا أحيي وأميت " إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند ، وإن عنى ما ذكره قتادة والسدي ومحمد بن إسحاق ، فلم يقل شيئاً يتعلق بكلام الخليل ، إذ لم يمنع مقدمة ، ولا عارض الدليل
ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفي على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم ، ذكر دليلاً آخر بين وجود الصانع ، وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهره : " قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " أي هذه الشمس مسخرة كل يوم ، تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها ، وهو الذي لا إله إلا هو خالق كل شئ ، فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب ، فإن الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب ، بل قد قهر كل شئ ودان له كل شئ ، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا ، فإن لم تفعله فلست كما زعمت ، وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شئ من هذا ، بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها
فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه ، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهله قومه ، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به ، بل انقطع وسكت ولهذا قال : " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين "
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود يوم خرج من النار ، ولم يكن اجتمع به يومئذ ، فكانت بينهما هذه المناظرة
وقد روى عبد الرزاق ، عن زيد بن أسلم ، أن النمرود كان عنده طعام ، وكان الناس يفدون إليه للميرة ، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة ، ولم يكن اجتمع به إلا يومئذ فكانت بينهما هذه المناظرة ، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطي الناس ، بل خرج وليس معه شئ من الطعام
فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب ، فملأمنه عدليه وقال : أشغل أهلي إذا قدمت عليهم ، فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام ، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاماً طيباً ، فعملت منه طعاماً ، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه ، فقال : أني لكم هذا ؟ قالت : من الذي جئت به ، فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل
قال زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ، ملكاً يأمره بالإيمان بالله فأبي عليه ، ثم دعاه الثانية فأبى عليه ثم دعاه الثالثة فأبي عليه وقال : اجمع جموعك وأجمع جموعي
فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ، فأرسل الله عليه ذباباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس ، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم ، وتركتهم عظاماً بادية ، ودخلت واحدة منها في منخر الملك فمكثت في منخره أربعمائة سنة ! عذبه الله تعالى بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها ، حتى أهلكه الله عز وجل بها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق