هو إبراهيم بن تارخ (250 ) بن ناحور ( 148 ) بن ساروغ ( 230 ) بن راغو ( 239 ) ابن فالغ ( 439 ) بن عابر ( 464 ) بن شالح ( 433 ) ابن أرفخشذ ( 438 ) ابن سام ( 600 ) بن نوح عليه السلام
هذا نص أهل الكتاب في كتابهم ، وقد أعلمت على أعمارهم تحت أسمائهم بالهندي كما ذكروه من المدد وقدمنا الكلام على عمر نوح عليه السلام فأغنى عن إعادته
وحكى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إبراهيم الخليل من تاريخه ، عن إسحاق بن بشر الكاهلي صاحب كتاب المبتدأ أن اسم أم إبراهيم أميلة ثم أورد عنه في خبر ولادتها له حكاية طويلة وقال الكلبي : اسمها بونا بنت كربتا بن كرثي ، من بني أرفخشذ بن سام بن نوح
وروى ابن عساكر من غير وجه عن عكرمة أنه قال : كان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان
قالوا : ولما كان عمر تارخ خمساً وسبعين سنة ولد له إبراهيم عليه السلام يكنى ، وناحور وهاران ، وولد لهاران لوط
وعندهم أن إبراهيم عليه السلام هو الأوسط ، وأن هاران مات في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها ، وهي أرض الكلدانيين ، يعنون أرض بابل
وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار ، وصحح ذلك الحافظ ابن عساكر ، بعد ما روى من طريق هشام بن عمار ، عن الوليد ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن مكحول ، عن ابن عباس قال : ولد إبراهيم بغوطة دمشق ، في قرية يقال لها برزة ، في جبل يقال له قاسيون ثم قال : والصحيح أنه ولد ببابل ، وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه إذ جاء معيناً للوط عليه السلام
قالوا : فتزوج إبراهيم سارة وناحور ملكا ابنة هاران يعنون ابنة أخيه
قالوا : وكانت سارة عاقراً لا تلد
قالوا : وانطلق تارخ بابنه إبراهيم وامرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران ، فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين ، فنزلوا حران فمات فيها تارخ وله مائتان وخمسون سنة
وهذا يدل على أنه لم يولد بحران ، وإنما مولده بأرض الكلدانيين وهي أرض بابل وما والاها
ثم ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانعيين ، وهي بلاد بيت المقدس ، فأقاموا بحران وهي أرض الكلدانيين في ذلك الزمان ، وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضاً ، وكانوا على الكواكب السبعة ، والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين ، يستقبلون القطب الشمالي ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها ، ويعملون لها أعياداً وقرابين
وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفاراً ، سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليه السلام
وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور ، وأبطل به ذاك الضلال ، فإن الله سبحانه وتعالى آتاه رشده في صغره ، وابتعثه رسولاً واتخذه خليلاً في كبره ، قال الله تعالى : " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين " أي أهلاً لذلك
وقال تعالى : " وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون * وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين * أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير * يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون * وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير * والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون * وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين * فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين "
ثم ذكر تعالى مناظرته لأبيه وقومه كما سنذكره إن شاء الله تعالى
* * *
وكان أول دعوته لأبيه ، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام ، لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له كما قال تعالى : " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا * قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا "
فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة ، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة وأحسن إشارة ، بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ، ولا تبصر مكانه ، فكيف تغني عنه شيئاً أو تفعل به خيراً من رزق أو نصر ؟ ثم قال له منبهاً على ما الله من الهدى والعلم النافع ، وإن كان أصغر سناً من أبيه : " يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا " أي مستقيماً واضحاً سهلاً حنيفاً يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك
فلما عرض هذا الرشد عليه ، وأهدى هذه النصيحة إليه لم يقبلها منه ولا أخذها عنه ، بل تهدده وتوعده قال : " أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك " قيل : بالمقال ، وقيل : بالفعال " واهجرني مليا " أي واقطعني وأطل هجراني فعندها قال له إبراهيم : " سلام عليك " أي لا يصلك منى مكروه ولا ينالك منى أذى ، بل أنت سالم من ناحيتي ، وزاده خيراً فقال : " سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا " قال ابن عباس وغيره أي لطيفاً ، يعني في أن هداني لعبادته والإخلاص له ولهذا قال : " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا "
وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم "
وقال البخاري : حدثنا إسماعيل بن عبد الله : حدثني أخى عبد الحميد ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني ؟ فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يارب إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزي من أبي الأبعد ؟ فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال : يا إبراهيم ما تحت رجليك ؟ فينظل فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " هكذا رواه في قصة إبراهيم منفرداً
وقال في التفسير : وقال إبراهيم بن طهمان ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه عن أبي هريرة
وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد الله ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن طهمان به وقد رواه البزار عن حديث حماد بن سلمة عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي سياقه غرابة ، ورواه أيضاً من حديث قتادة عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه
وقال تعالى : " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين " هذا يدل على أن اسم أبي إبراهيم آزر ، وجمهور أهل النسب ، منهم ابن عباس ، على أن اسم أبيه تارح وأهل الكتاب يقولون تارخ بالخاء المعجمة ، فقيل : إنه لقب بصنم كان يعبده اسمه آزر
وقال ابن جرير : والصواب أن اسمه آزر ولعل له اسمان علمان ، أو أحدهما لقب والآخر علم وهذا الذي قاله محتمل والله أعلم
* * *
ثم قال تعالى : " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم "
وهذا المقام مقام مناظرة لقومه ، وبيان لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة ، لا تصلح للألوهية ، ولا أن تعبد مع الله عز وجل ، لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة ، تطلع تارة وتأفل أخرى ، فتغيب عن هذا العالم ، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية ، بل هو الدائم الباقي بلا زوال ، لا إله إلا هو ولا رب سواه
فبين لهم أولاً عدم صلاحية الكوكب لذلك ، قيل هو الزهرة ، ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها ، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء ، فبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة ، كما قال تعالى : " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون "
ولهذا قال : " فلما رأى الشمس بازغة " أي طالعة " قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا " أي لست أبالي هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله ، فإنها لا تنفع شيئاً ولا تسمع ولا تعقل ، بل هي مربوبة مسخرة كالكواكب ونحوها ، أو مصنوعة منحوتة منجورة
والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب لأهل حران ، فإنهم كانوا يعبدونها وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيراً ، كما ذكره ابن إسحاق وغيره ، وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها ، ولا سيما إذا خالفت الحق
* * *
وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام ، وهم الذين ناظرهم في عبادتهم وكسرها عليهم ، وأهانها وبين بطلانها ، كما قال تعالى : " وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين "
وقال في سورة الأنبياء : " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون * قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم * قالوا فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون * قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين "
وقال في سورة الشعراء : " واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون * قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين * رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين "
وقال في سورة الصافات : " وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم * إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون * أئفكا آلهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين * فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم * فتولوا عنه مدبرين * فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين * فأقبلوا إليه يزفون * قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون * قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم * فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين "
يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام ، أنه أنكر على قومه عبادة الأوثان وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها ، فقال : " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " ؟ أي معتكفون عندها وخاضعون لها ، قالوا : " وجدنا آباءنا لها عابدين " أي ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والأجداد ، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد
" قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين " كما قال تعالى : " إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون * أئفكا آلهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين " قال قتادة : فما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره ؟
وقال لهم : " هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " سلموا له أنها لا تسمع داعياً ولا تنفع ولا تضر شيئاً ، وإنما الحامل لهم على عبادتها الإقتداء بأسلافهم ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهال ولهذا قال لهم : " أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين "
وهذا برهان قاطع على بطلان إلهية ما ادعوه من الأصنام ، لأنه تبرأ منها وتنقص بها فلو كانت تضر لضرته ، أو تؤثر لأثرت فيه " قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " ؟ ويقولون : هذا الكلام الذي تقوله لنا وتتنقص به آلهتنا ، وتطعن بسببه في آبائنا أتقوله محقاً جاداً فيه أم لاعباً ؟
" قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين " يعني بل أقول لكم ذلك جاداً محقاً ، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ، ربكم ورب كل شيء ، فاطر السموات والأرض ، الخالق لهما على غير مثال سبق ، فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، وأنا على ذلكم من الشاهدين
وقوله : " وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين " أقسم ليكيدن هذه الأصنام التي يعبدونها بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم
قيل : إنه قال : هذا خفية في نفسه وقال ابن مسعود : سمعه بعضهم
وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد ، فدعاه أبوه ليحضره فقال : إني سقيم كما قال تعالى : " فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم " عرض لهم في الكلام حتى توصل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم ونصرة دين الله الحق ، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي تستحق أن تكسر وأن تهان غاية الإهانة
فلما خرجوا إلى عيدهم ، واستقر هو في بلدهم " راغ إلى آلهتهم " أي ذهب إليها مسرعاً مستخفياً ، فوجدها في بهو عظيم ، وقد وضعوا بين أيديها أنواعاً من الأطعمة قرباناً إليها فقال لها على سبيل التهكم والإزدراء : " ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين " لأنها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر ، فكسرها بقدوم في يده كما قال تعالى : " فجعلهم جذاذا " أي حطاماً ، كسرها كلها " إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون " قيل إنه وضع القدوم في يد الكبير ، إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار !
فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم : " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين "
وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون ، وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء لكنهم قالوا من جهلهم وقلة عقلهم وكثرة ضلالهم وخيالهم : " من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين "
" قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم " أي يذكرها بالعيب والتنقص لها والإزدراء بها ، فهو المقيم عليها والكاسر لها وعلى قول ابن مسعود ، أي يذكرها بقوله : " وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين "
" قالوا فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون " أي في الملأ الأكبر على رءوس الأشهاد ، لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه ، ويعاينون ما يحل به من الإقتصاص منه
وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم ، فيقيم على جميع عباد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه ، كما قال موسى عليه السلام لفرعون : " موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى "
* * *
فلما اجتمعوا وجاءوا به كما ذكروا : " قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا " قيل معناه : هو الحامل لي على تكسيرهم ، وإنما عرض لهم في القول " فاسألوهم إن كانوا ينطقون "
وإنما أراد بقوله هذا أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق ، فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات
" فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون " أي فعادوا على أنفسهم بالملامة ، فقالوا : إنكم أنتم الظالمون أي في تركها لها ولا حارس عندها
" ثم نكسوا على رؤوسهم " قال السدي : أي ثم رجعوا إلى الفتنة ، فعلى هذا يكون قوله : " إنكم أنتم الظالمون " أي في عبادتها
وقال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء ، أي فأطرقوا ثم قالوا : " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق ، فكيف تأمرنا بسؤالها ؟ !
فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام : " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون "
كما قال : " فأقبلوا إليه يزفون " قال مجاهد : يسرعون قال " أتعبدون ما تنحتون " أي كيف تعبدون أصناماً أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة ، وتصورونها وتشكلونها كما تريدون " والله خلقكم وما تعملون "
وسواء أكانت : ما مصدرية أو بمعنى الذي فمقتضي الكلام أنكم مخلوقون ، وهذه الأصنام مخلوقة ، فكيف يتعبد مخلوق لمخلوق مثله ؟ فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم ، وهذا باطل ، فالآخر باطل للتحكم ، إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب إلا للخالق وحده لا شريك له
* * *
" قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم * فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين "
عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا ةغلبوا ، ولم تبق لهم الحجة ولا شبهة إلى استعمالقوتهم وسلطانهم ، لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم ، فكادهم الرب جل جلاله ، وأعلى كلمته ودينه وبرهانه كما قال تعالى : " قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين "
وذلك أنهم شرعوا يجمعوه خطباً من جميع ما يمكنهم من الأماكن ، فمكثوا مدة يجمعون له ، حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطباً لحريق إبراهيم ، ثم عمدوا إلى حوية عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار ، فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلا لها شرر لم ير مثله قط
ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقالله هيزن وكان أول من صنع المجانيق ، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك ، لا شريك لك
فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيداً مكتوفاً ثم ألقوه منه إلى النار قال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قيل له : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " الآية
وقال أبو يعلى : حدثنا أبو هشام الرفاعي حدثنا إسحاق ابن سلمان ، عن أبي جعفر الرازي ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم : " لما ألقى إبراهيم في النار قال : اللهم إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض أعبدك " !
وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا !
ويروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنه قال : جعل ملك المطر يقول : متى أومر فأرسل المطر ؟ فكان أمر الله أسرع
" قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " قال علي بن أبي طالب : أي لا تضر به وقال ابن عباس وأبو العالية : لولا أن الله قال : " وسلاما على إبراهيم " لآذى إبراهيم بردها
وقال كعب الأحبار : لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار ، ولم تحرق منه سوى وثاقه
وقال الضحاك : يروى أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه لم يصبه منها شيء غيره
وقال السدي : كان معه أيضاً ملك الظل ، وصار إبراهيم عليه السلام في ميل الحوية حوله نار وهو في روضة خضراء ، والناس ينظرون إليه لايقدرون على الوصول ، ولا هو يخرج إليهم
فعن أبي هريرة أنه قال : أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم : إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال : نعم الرب يا إبراهيم !
وروى ابن عساكر عن عكرمة أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته : يا بني إني أريد أن أجيء إليك فادع الله أن ينجيني من حر النار حولك ، فقال نعم فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار ، فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته ثم عادت
وعن المنهال بن عمرو أنه قال : أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوماً ، وأنه قال : ما كنت أياماً وليالي أطيب عيشاً إذ كنت فيها ، وودت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها صلوات الله وسلامه عليه
فأرادوا أن ينتصروا فخذلوا ، وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا ، وأرادوا أن يغلبوا فغلبوا قال الله تعالى : " وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " وفي الآية أخرى : " الأسفلين " ففازوا بالخسارة والسفال هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم برداً ولا سلاماً ، ولا يلقون فيها تحية ولا سلاماً ، بل هي كما قال تعالى : " إنها ساءت مستقرا ومقاما "
قال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، أو ابن سلام عنه ، أنبأنا ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير ، عن سعيد بن المسيب ، عن أم شريك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ ، وقال : " كان ينفخ على إبراهيم "
ورواه مسلم من حديث ابن جريج ، وأخرجه النسائي و ابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة ، كلاهما عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عنه
وقال أحمد : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي أمية ، أن نافعاً مولى ابن عمر أخبره أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه السلام قال :" اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم " قال : فكانت عائشة تقتلهن
وقال أحمد : حدثنا إسماعيل : حدثنا أيوب عن نافع ، أن امرأة دخلت على عائشة فإذا رمح منصوب فقالت : ما هذا الرمح ؟ فقالت : نقتل به الأوزاغ : ثم حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن إبراهيم لما ألقى في النار جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ ، فإنه جعل ينفخها عليه "
تفرد به أحمد من هذين الوجهين
وقال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا جرير ، حدثنا نافع ، حدثتني سمامة مولاة الفاكه بن المغيرة ، قالت : دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحاً موضوعاً ، فقلت : يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح ؟ قالت : هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن به ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا : " أن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة ألا تطفى عنه النار ، غير الوزغ كان ينفخ عليه ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله "
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن شيبة عن يونس بن محمد عن جرير بن حازم به .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق