وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الأقانيم ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة وهم الذات المقدسة وعيسى ومريم ، على اختلاف فرقهم ، فأنزل الله عز وجل صدر هذه السورة بين فيها أن عيسى بعد من عباد الله خلقه وصوره في الرحم كما صور غيره من المخلوقات وأنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم ، وقال له كن فكان سبحانه وتعالى وبين اصل ميلاد أمه مريم وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى ، وكذلك بسط ذلك في سورة مريم كما سنتكلم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته
فقال تعالى وهو أصدق القائلين :" إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم * إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب "
يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام والخلص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته ، ثم خصص فقال :" وآل إبراهيم " فدخل فيهم بنو إسماعيل ثم ذكر فضل هذا البية الطاهر الطيب وهم آل عمران ، والمراد بعمران هذا والد مريم عليهما السلام
وقال محمد بن إسحاق : وهو عمران بن هشام بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن موثم بن عزازيا بن أمصيا بن ياوش بن أحريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إيشا بن إيان بن رحبعام بن داود
وقال أبو القاسم بن عساكر : مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليهود بن أخنز بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن أيبود بن زرابابيل ابن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون ابن ميشا بن حزقيا بن أحاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن إيشا بن إيبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام وفيه مخالفة لما ذكره محمد بن إسحاق
ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه ، وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات ، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم أشياع في قول الجمهور وقيل زوج خالتها أشياع فالله أعلم
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أمر مريم كانت لا تحبل فرأت يوماً طائراً يزق فرخاً له فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محرراً أي حبيساً في بيت المقدس
قالوا : فحاضت من فورها فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام " فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت " وقرئ بضم التاء " وليس الذكر كالأنثى " أي في خدمة بيت المقدس ، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداماً من أولادهم
وقولها :" وإني سميتها مريم " استدل به على تسمية المولود يوم يولد ، وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهبه بأخيه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحنك أخاه وسماه عبد الله وجاء في حديث الحسن عن سمرة مرفوعاً :" كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمي ويحلق رأسه "
رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وجاء في بعض ألفاظه :" ويدمى " بدل " ويسمى " وصححه بعضهم والله أعلم
وقولها :" وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها ، فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها " ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم : " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم "
أخرجاه من حديث عبد الرزاق ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية ، عن عبد الله بن الزبيدي ، عن الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحوه
وقال أحمد أيضاً : حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا ابن أبي ذؤيب ، عن عجلان مولى المشتمعل ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بأصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى "
تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن عمر بن الحارث ، عن أبي يونس ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحوه
وقال أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا حفص بن ميسرة ، عن العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا ما كان من مريم وابنها ، ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ ، ؟ قالو : بلى يا رسول الله قال : ذلك حين يلكزه الشيطان بحضنيه "
وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه من هذا الوجه ، ورواه قيس عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة - أو عصرتين - إلا عيسى ابن مريم ومريم " ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم "
وكذا رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بأصل الحديث
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله ، حدثنا المغيرة هو ابن عبد الرحمن الحزامي ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" كل نبي آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب " وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه
وقوله :" فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا "ذكر كثير من الفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خرقها ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به ، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها ، والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها
ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها ، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان ، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل زوجته أختها أو خالتها على القولين فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم ، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم وذلك أن الخالة بمنزلة الأم
قال الله تعالى " وكفلها زكريا " أي بسبب غلبه لهم في القرعة كما قال تعالى :" ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون " قالوا : وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفاً به ثم حملوها ووضعوها في موضع وأمروا غلاماً لم يبلغ الحنث فأخرج واحداً منها وظهر قلم زكريا عليه السلام فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جرية الماء ، وسارة أقلامهم مع الماء ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعداً فهو الغالب ففعلوا فكن زكريا هو الغالب لهم فكفلها إذا كان أحق بها شرعاً وقدراً لوجوه عديدة
قال الله تعالى :" كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " قال المفسرون : اتخذ لها زكريا مكاناً شريفاً من المسجد لا يدخله سواها ، فكانت تعبد الله فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتها ، وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها ، حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل ، واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة والصفات الشريفة ، حتى إنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقاً غريباً في غير أوانه فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فيسألها " أنى لك هذا " فتقول :" هو من عند الله " أي رزق رزقنيه الله " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب "
فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه وإن كان قد أسن وكبر " قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " قال بعضهم : قال : يامن يرزق مريم الثمر في غير أوانه ، هب لي ولداً وإن كان في غير أوانه ، فكان من هبره وقضيته ما قدمنا ذكره في قصته
" وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين * ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون * إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل * ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم "
يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء علمي زمانها ، بأن اختارها لإيجاد ولد منها من غير اب وبشرت بأن يكون نبياً شريفاً " يكلم الناس في المهد " أي في صغره يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وكذلك في حال كهوليته ، فدل على أن يبلغ الكهولة ويدعو إلى الله فيها ، وأمرت بكثرة العبادة والقنةت والسجود والركوع لتكون ÷لاً لهذه الكرامة ولتقوم بشكر هذه النعمة فيقال إنها كاتن تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها رضي الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها
فقول الملائكة :" يا مريم إن الله اصطفاك " أي اختارك واجتباك " وطهرك " أي من الأخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة " واصطفاك على نساء العالمين " يحتمل أن يكون المراد عالمي زمانها كقوله لموسى :" إني اصطفيتك على الناس " وكقوله عن بني إسرائيل :" ولقد اخترناهم على علم على العالمين " ومعلوم أن إبراهيم علييه السلام أفضل من موسى ، وأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) أفضل منهما ، وكذلك هذه الأمة أفضل من سائر الأمم قبلها وأكثر عدداً وأفضل علماً وأزكى عملاً من بني إسرائيل وغيرهم
ويحتمل أن يكون قوله :" واصطفاك على نساء العالمين " محفوظ العموم فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها أو جد بعدها لأنها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها ونبوة سارة أم إسحاق نبوة أم موسى محتجاً بكلام الملائكة والوحي إلى أم موسى ، كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره ، فلا يمتنع على هذا أن تكون مريم أفضل من سارة أم موسى لعموم قوله :" واصطفاك على نساء العالمين " إذ لم يعارضه غيره والله أعلم
وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره من أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال ، وليس في النساء نبية فيكون أعلى مقامات مريم كما قال الله تعالى :" ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة " فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها وممن يكون بعدها والله أعلم
وقد جاء ذكرها مقروناً مع آسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) ورضي الله عنهن وأرضاهن
وقد روى الإمام أحمد و البخاري ومسلم و الترمذي و النسائي من طرق عديدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد "
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" حسبك من نساء العالمين بأربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد "
ورواه الترمذي عن أبي بكر بن زنجويه ، عن عبد الرزاق به وصححه ، ورواه ابن مردويه من طريق بعد الله بن أبي جعفر الرازي وابن عساكر من طريق تميم بن زياد ، كلاهما عن أبي جعفر الرازي ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد رسول الله "
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، قال : كان أبي هريرة يحدث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" خير نساء ركبن الإبل صلاح نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه لزوج في ذات يده " قال أبو هريرة : ولم تركب مريم بعيراً قط
وقد رواه مسلم في صحيحه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرزاق به
وقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني موسى بن علي سمعت أبي يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرأفه بزوج على قلة ذات يده " قال أبو هريرة : وقد علم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ان ابنة عمران لم تركب الإبل
تفرد به وهو على شرط الصحيح ولهذا الحديث طرق أخر عن أبي هريرة
وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن علباء ابن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الأرض أربع خطوط فقال :" أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " ورواه النسائي من طرق عن داود بن أبي هند
وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا يحيى بن حاتم العسكري : أنبأنا بشر بنمهران بن حمدان ، حدثنا محمد بن دينار ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله 0صلى الله عليه وسلم) : " حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين : فاطمة بنت محمد ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران "
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا وهب بن بقية ، حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، أنها قالت لفاطمة : أرأيت حين أكببت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فبكيت ثم ضحكت ؟ قالت : أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت ، ثم أكببت عليه فأخبرني أني أسرع أهله لحوقاً به وأني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت
وأصل هذا الحديث في الصحيح وهذا إسناد على شرط مسلم وفيه أنهما أفضل الأربع المذكورات
وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد حدثنا جرير ، عن يزيد - هو ابن أبي زياد - عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله 0صلى الله عليه وسلم) :" فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران " إسناد حسن وصححه الترمذي ولم يخرجوه ، وقد روي نحوه من حديث علي بن أبي طالب ولكن في إسناده ضعف
والمقصود أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الأربع ، ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة ويحتمل أن يكونا على السواء في الفضيلة
ولكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الأول فقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : أنبأنا أبو الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنا ، قالوا : أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة ، أنبأنا أبو طاهر المخلص ، حدثنا أحمد بن سليمان ، حدثنا الزبير هو ابن بكار ، حدثنا محمد بن الحسن ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن موسى بن عقبة عن كريب ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون "
فإن كان هذا اللفظ محفوظاً بثم التي للترتيب فهو مبين لأحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء ، وتقدم على ما تقدم من الألفاظ التي وردت بواو العطف التي لاتقتضي الترتيب ولا تنفيه والله أعلم
وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازي عن داود الجعفري عن عبد العزيز بن محمد وهو الدراوردي ، عن إبراهيم عن عقبه ، عن كريب ، عن ابن عباس مرفوعا ، فذكره بواو العطف لا بثم الترتيبية ، فخالفه إسنادا ومتنا فالله أعلم
فأما الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث : مريم بنت
عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " وهكذا الحديث الذي رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق ، عن شعبة ، عن عمرو ابن مرة ، عن مرة الهمداني ، عن أبي موسى الأشعري ، قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام "
فإنه حديث صحيح كما ترى اتفق الشيخان على إخراجه ، ولفظه يقتضي حصر الكمال في النساء في مريم وآسية ، ولعل المراد بذلك في زمانهما فإن كلا منهما كفلت نبيا في حال صغره ، فآسية كفلت موسى الكليم ، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله ، فلا ينفي كمال غيرهما في هذه الأمة كخديجة وفاطمة
فخديجة خدمت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل البعثة خمسة عشر سنة وبعدها أزيد من عشر سنين ، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها ، رضي الله عنها وأرضاها
وأما فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنها خصت بمزيد فضيلة على أخواتها لأنها أصيبت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبقية أخواتها متن في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)
وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول االله (صلى الله عليه وسلم) إليه ولم يتزوج بكرا غيرها ، لا يعرف في سائر النساء في هذه الأمة - بل ولا في غيرها -أعلم منها ولا أفهم ، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فأنزل الله براءتها من فوق سبع سموات ، وقد عمرت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قريباً من خمسين سنة تبلغ عنه القرآن والسنة وتفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين ، والأحشن الوقف فيهما رضي الله عنهما ، وما ذاك إلا لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) :" وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " يحتمل أن يكون عاماً بالنسبة إلى المذكورات وغيرهن ويحتمل أن يكون عاماً بالنسبة إلى ماعدا المذكورات والله أعلم
والمقصود هاهنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام ، فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمي زمانها ، ويحوز أن يكون تفضيلها على النساء ملطقاً كما قدمنا وقد ورد في حديث أنها تكون من أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجنة هي وآسية بنت مزاحم وقد ذكرنا في التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك واستأنس بقوله :" ثيبات وأبكارا " قال : فالثيب آسية ومن الأبكار مريم بنت عمران وقد ذكرناه في آخر سورة التحريم فالله أعلم
قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثنا أبي ، أنبأنا عمي الحسين ، حدثنا يونس بن نفيع ، عن سعد بن جنادة ، هو العوفي ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى "
رواه ابن جعفر العقيلي من حديث عبد النور به وزاد فقلت : هنيئاً لك يا رسول الله ثم قال العقيلي : وليس بمحفوظ
وقال الزبير بن بكار : حدثني محمد بن الحسن ، عن يعلى بن المغيرة عن أبي داود ، قال : دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه فقال لها :" بالكره مني ما أري منك يا خديجة ، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً ، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون ، قالت : وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم قالت : بالرفاء والبنين "
وروى ابن عساكر من حديث بن زكريا الغلابي ، حدثنا العباس بن بكار ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل على خديجة وهي في مرض الموت فقال :" يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام قالت : يا رسول الله وهل تزوجت قبلي ؟ قال : لا ، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى "
وروى ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد ، حدثنا محمد بن صالح بن عمر ، عن الضحاك ومجاهد ، عن ابن عمر ، قال : نزل جبريل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما أرسل به وجلس يحدث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غذ مرت خديجة فقال جبريل : من هذه يا محمد ؟ قال :" هذه صديقة أمتي " قال جبريل معي إليها رسالة من الرب عز وجل يقرئها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب قالت : الله السلام ومنه السلام والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله ، وما ذلك البيت الذي من قصب ؟ قال : لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم ، وعما من أزواجي يوم القيامة
وأصل السلام على خديجة من الله وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا وصب في الصحيح ، ولكن هذ1 السياق بهذه الزيادات غريب جداً ، وكل من هذها الأحاديث في أسانيدها نظر
وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة الدمشقي ، حدثنا بعد الله بن صالح ، حدثني معاوية ، عن صفوان بن عمرو ، عن خالد بن معدان عن كعب الأحبار أن معاوية سأله عن الصخرة - يعني صخرة بيت المقدس - فقال : الصخرة على نخلة ، والنخلة على نهر من أنهار الجنة ، وتحت النخلة مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم ينظمان سموط أهل الجنة حتى تقوم الساعة
ثم رواه من طريق إسماعيل ، عن عياش ، عن ثعلبة بن مسلم ، عن مسعود ، عن عبد الرحمن ، عن خالد بن معدان ، عن عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بمثله
وهذا منكر من هذا الوجه بل هو موضوع
وقد رواه أبو زرعة عن عبد الله بن صالح ، عن معاوية عن مسعود بن عبد الرحمن ،عن ابن عابد ، أن معاوية سألة كعباً عن صخرة بيت المقدس فذكره
قال الحافظ ابن عساكر : وكونه من كلام كعب الأحبار أشبه
قلت : وكلام كعب الأحبار هذا إنما تلقاه من الإسرائيليات التي منها ما هو مكذوب مفتعل وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم وهذا منه والله أعلم
ذكر ميلاد العبد الرسول عيسى ابن مريم العذراء البتول
قال الله تعالى :" واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا * فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا * ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم "
ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا التي هي كالمقدمة لها والتوطئة قبلها ، كما ذكر في سورة آل عمران قرن بينهما في سياق واحد ، وكما قال في سورة الأنبياء :" وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين * والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين "
وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس ، وأنه كفلها أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام ، وأنه اتخذ لها محراباً وهو المكان الشريف من المسجد ، لا يدخله أحد عليها سواه ، وأنها لما بلغت اجتهدت في العبادة فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات ، وظهر عليها من الأحوال ما عبطها به زكريا عليه السلام ، وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها وبأنها سيهب لها ولداً زكياً يكون نبياً كريماً طاهراً مكرماً مؤيداً بالمعجزات ، فتعجبت من وجود ولد من غير والد ، لأنها لا زوج لها ، ولا هي ممن تنزوج فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ، فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت لأمر الله ، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها ، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه ، لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر ، وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل
وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها من استقاء ماء أو تحصيل غذاء ، فبينما هي يوماً قد خرجت لبعض شئونها و " انتبذت " أي انفردت وحدها شرقي المسجد الأقصى إذا بعث الله إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام " فتمثل لها بشرا سويا " فلما رأته " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " قال أبو العالية : علمت أن التقى ذو نهية وهذا يرد قول من زعم أنه كان في بني إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق اسمه تقي فإن هذا قول باطل بلا دليل ، وهو من أسخف الأقوال
" قال إنما أنا رسول ربك " أي خاطبها الملك " قال إنما أنا رسول ربك " أي لست ببشر ولكني ملك بعثني الله عليك " لأهب لك غلاما زكيا "
" قالت أنى يكون لي غلام " أي كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد " ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " أي ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة " قال كذلك قال ربك هو علي هين " أي فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلاً : " كذلك قال ربك " أي وعد أنه سيخلق منك غلاماً ولست بذات بعل ، ولا تكونين ممن تبغين " هو علي هين " أي وهذا سهل عليك ويسير لديه ، فإنه على ما يشاء قدير
وقوله :" ولنجعله آية للناس " أي ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلاً على كمال قدرتنا على أنواع الخلق ، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى وقوله " ورحمة منا " أي نرحم به العباد بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته ، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والأولاد والشركان والنظراء والأضداد والأنداد
وقوله :" وكان أمرا مقضيا " يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها ، يعني أن هذا أمر قضاه وحتمه وقدره وقرره ، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق واختياره ابن جرير ، ولم يحك سواه والله أعلم
ويحتمل أن يكون قوله :" وكان أمرا مقضيا " كناية عن نفخ جبريل فيها كما قال تعالى :" ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا "
فذكر غير واحد من السلف أن جبريل نفخ في جيب رعها فنزلت النفخة إلى فرجها فحملت من فورها كما تحمل المرأة عند جماع بعلها ومن قال إنه نفخ في فمها أو أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها ، فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن ، فإن هذا السياق يدل على أن الذي أرسل ملك من الملائكة وهو جبريل عليه السلام ، وأنه إنما نفخ فيها ولم يواجه الملك الفرج بل نفخ في جيبها فنزلت النفخة إلى فرجها فانسلكت فيه كما قال تعالى :" فنفخنا فيه من روحنا " فدل على أن النفخة ولجت فيه لا في فمها ، كما رواه السدي بإسناده عن بعد الصحابة
ولهذا قال تعالى :" فحملته " أي فحملت ولدها " فانتبذت به مكانا قصيا " وذلك لأن مريم عليها السلام لما حملت ضافت به ذرعاً ، علمت أن كثيراً من الناس سيكون منهم كلام في حقها ، فذكر غير واحد من السلف منهم وهب بن منبه أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له يوسف بن يعقوب النجار ، وكان إبن خالها فجعل يعجب من ذلك عجباً شديداً ، وذلك لما يعمل من ديانتها ونزاهتها وعبادتها وهو مع ذلك يراها حبلى وليس لها زوج ، فعرض لها ذات يوم في الكلام فقال : يا مريم هل يكون زرع من غير بذر ؟ قالت : نعم ، فمن خلق الزرع الأول ثم قال : فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت : نعم إن الله خلق آدم من ذكر ولا أنثى قال لها : فأخبريني خبرك فقال : إن الله بشرني " بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين "
ويروي مثل هذا عن زكريا عليه السلام أنه سألها فأجابته بمثل هذا والله أعلم
وذكر السدي بإسناده عن الصحبة : أن مريم دخلت يوماً على أختها فقالت لها أختها : أشعرت أني حبلى ؟ فقال مريم : وشعرت أيضاً أني حبلى ؟ فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك قوله :" مصدقا بكلمة من الله " ومعنى السجود هاهنا الخضوع والتعظيم ، كالسجود عند المواجهة للسلام كما كان في شرع من قبلنا ، وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم : وقال أبو القاسم ، قال مالك يك بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة وكان حملهما جميعاً معاً ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عله السلام ، لأن الله تعالى جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وراه ابن أبي حاتم
وروى عن مجاهد قال : قالت مريم : كنت إذا خلوت حدثني وكلمني وإذا كنت بين الناس سبح في بطني
ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر كما تحمل النساء ويضعن لميقات حملهن ووضعهن ، إذ لو كان خلاف ذلك لذكر
وعن ابن عباس وعكرمة أنها حملت به ثمانية أشهر ، وعن ابن عباس ما هو إلا أن حملت به فوضعته ، قال بعضهم : حملت به تسع ساعات واستأنسوا لذلك بقوله :" فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة "
والصحيح أن تعقيب كل شيء بحبسه ، كقوله :" فتصبح الأرض مخضرة " وكقوله :" ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " ومعلوم أن بين كل حالين أربعين يوماً كما ثبت في الحديث المتفق عليه
قال محمد بن إسحاق : شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل ، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا
قال : واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد ، وتوارت عنهم مريم واعتزلتهم وانتبذت مكاناً قصياً وقوله :" فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " أي فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة ، وهو بنص الحديث الذي رواه النسائي بإسناد لا بأس به عن أنس مرفوعاً والبيهقي بإسناد وصححه عن شداد بن أوس مرفوعاً أيضاً بيت لحم الذي بني عليه بعض ملوك الروم فيما بعد على ما سنذكره هذا البناء المشاهد الهائل
" قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتن ، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها ، مع أنها قد كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه ، ومن بيت النبوة والديانة فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت أو لو كانت ماتت قبل هذا الحال أو كانت " نسيا منسيا " أي لم تخلق بالكلية
وقوله :" فناداها من تحتها " وقرئ من " تحتها " على الخفض
وفي المضمر قولان ، أحدهما أنه جبريل قاله العوفي عن ابن عباس قال : ولم يتكلم عيسى إلا بحضرة القوم وبهذا قال سعيد بن جبير وعمر بن ميمون والضحاك والسدي وقتادة وقال مجاهد والحسن وابن زيد وسعيد بن جبير في رواية : هو ابنها عيسى ، واختاره ابن جرير
وقوله :" أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا " قيل النهر وإليه ذهب الجمهور وجاء فيه حديث رواه الطبراني لكنه ضعيف واختاره ابن جرير وهو الصحيح وعن الحسن والربيع بن أنس وابن أسلم وغيرهم أنه ابنها والصحيح الأول لقوله :" وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " فذكر الطعام والشراب ولهذا قال :" فكلي واشربي وقري عينا "
ثم قيل : كان جذع النخلة يابساً وقيل كانت نخلة مثمرة فالله أعلم ويحتمل أنها كانت نخلة ، لكنها لم تكن مثمرة إذا ذاك لأن ميلاده كان في زمن الشتاء وليس ذاك وقت ثمر ، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان " تساقط عليك رطبا جنيا "
قال عمرو بن ميمون : ليس شيء أجد للنفساء من التمر والرطب ثم تلا هذه الآية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا شيبان ، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي ، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس من الشجر شيء يلقح غيرها " وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" أطعموا نساءكم الولد الرطب ، فإن لم يكن رطب فتمر ، وليس من الشجر شجرة أرم على الله من شرجة نزلت تحتها مريم بنت عمران "
وكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن شيبان بن فروخ ، عن مسروق بن سعيد ، وفي رواية مسرور بن سعد ، والصحيح مسرور بن سعيد التميمي ، أورد له ابن عدي هذا الحديث عن الأوزاعي به ، ثم قال : وهو منكر الحديث ولم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث
وقال ابن حبان : يروى عن الأوزاعي المناكير الكثيرة التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها قوله :" فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " وهذا من تمام كلام الذي ناداها من تحتها قال :" كلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا " أي فإن رأيت أحداً من الناس " فقولي " له أي بلسان الحال والإشارة " إني نذرت للرحمن صوما " أي صمتاً ، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام قاله قتادة والسدي وابن أسلم ، ويدل على ذلك قوله :" فلن أكلم اليوم إنسيا " فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلى الليل
وقوله تعالى :" فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " ذكر كثير من السلف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها فمروا على محلتها والأنوار حولها ، فلما واجهوها وجدوا معها ولدها فقالوا لها :" يا مريم لقد جئت شيئا فريا " أي أمراً عظيماً منكراً وفي هذا الذي قالوه ، مع أنه كلام ينقض أوله آخره وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملته بنفسها وأتت به قومها وهي تحمله قال ابن عباس : وذلك بعد ما تعالت من نفاسها بعد أربعين يوماً
والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال
ثم قالوا لها :" يا أخت هارون " قيل شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تساميه في العبادة ، وكان اسمه هارون قاله سعيد بن جبير وقيل أرادوا بهارون أخا موسى شبهوها به في العبادة ، وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسباً فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع ، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله موسى وقومه وأغرف فوعون وملأه ، فاعتقد أن هذه هي هذه
وهذا في غاية البلان والمخالفة للحديث الصحيح من نص القرآن كما قررناه في التفسير مطولاً ولله الحمد والمنة
وقد ورد في الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هارون وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها والله أعلم
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس ، سمعت أبي يذكره ، عن سماك ، عن علقمة ابن وائل ، عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى نجران فقالوا : أرأيت ما تقرءون :" يا أخت هارون " وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال فرحت فذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال :" ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بالأنبياء والصالحين قبلهم "
وكذا رواه مسلم والنسائي و الترمذي من حديث عبد الله بن إدريس ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه ، وفي رواية :" ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم "
وذكر قتادة وغيره أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهارون حيث قيل إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير منهم ممن يسمى بهارون أربعون ألفاً فالله أعلم
والمقصود أنهم قالوا :" يا أخت هارون " ودل الحديث على أنها قد كان لها أخ نسبي اسمه هارون وكان مشهوراً بالدين والصلاة والخير ، ولهذا قالوا :" ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " أي لست من بيت هذا شميتهم ولا سجيتهم لا أخوك ولا أمك ولا أبوك فاتهموها بالفاحشة العظمى ورموها بالداهية الدهياء
فذكر ابن جرير في تاريخه أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله ففر منهم فلحقوه وقد انشقت له الشجرة فدخلها وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشره فيها كما قدمناه ، ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف بن يعقوب النجار
فلما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال ، عظم التوكل على ذي الجلال ، ولم يبقى إلا الإخلاص والاتكال " فأشارت إليه " أي خاطبوه وكلموه فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه ، فعندها " قالوا " من كان منهم جباراً شقياً :" كيف نكلم من كان في المهد صبيا " أي كيف تحيلينا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب ، وهو مع ذلك رضيع في مهده ولا يميز بين مخض وزبده ، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء والنقص لنا والازدراء إذ لا تردين علينا قولاً نطقياً ، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبياً
فعندها :" قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا "
هذا أول كلام تفوه به عيسى ابن مريم ، فكان أول ما تكلم به أن " قال إني عبد الله " اعترف لربه تعالى بالعبودية ، وأن الله ربه فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله ، بل هو عبده ورسوله وابن أمته ، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله :" آتاني الكتاب وجعلني نبيا " فإن الله لا يعطي النبوة من هو كما زعموا لعنهم الله وقبحهم ، وكما قال تعالى :" وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا : إنها حملت به من زنى في زمن الحيض ، لعنهم الله فبأها الله من ذلك وأخبر عنها أنها صديقة واتخذ ولدها نبياً مرسلاً أحد أولي العزم الخمسة الكبار ولهذا قال ك" وجعلني مباركا أين ما كنت " وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تعالى وتقدس " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة ، والإحسان إلى الخيقة بالزكاة ، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاف الرذيلة وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج على اختلاف الأصناف وقري الأضياف والنفقات على الزوجات والأرقاء والقرابات وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات
ثم قال :" وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا " أي وجعلني براً بوالدتي وذلك أنه تأكد حقها عليه لتحض جهتها إذ لا والد له سواها ، فسبحان من خلق الخيقة وبرأها وأعطى كل نفس هداها " ولم يجعلني جبارا شقيا " أي لست بفظ ولا غليظ ، ولا يصدر مني قول ولا فعل ينافي أمر الله وطاعته
" والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " وهذه المواطن الثلاثة اليت تقدم الكلام عليها في قصة يحي بن زكريا عليهما السلام
ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية وبين أمره ووضحه وشرحه قال :" ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " كما قال تعالى بعد ذكر قصته وما كان من أمره في آل عمران :" ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم * إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين "
ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكباً يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم ، ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم وهم العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة ، فجعلوا يناظرون في أمر المسيح فأنزل الله صدر سورة آل عمران في ذلك ، وبين أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أمه من قبله وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه ، فلما رأوا عينيها وأذنيها نطصوا وامتنعوا عن المباهلة وعدلوا إلى المسالة والموادعة ، وقال قائلهم وهو العقب عبد المسيح : يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمداً لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فطلبوا ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسألوه أن يضرب عليهم جزية وأن يبعث معهم رجلاً أميناً ، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقد بينا ذلك في تفسير آل عمران وقد بسطنا هذه القسة في السيرة النبوية
والمقصود أن الله تعالى بين أمر المسيح فقال لرسوله :" ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " يعني من أنه عبد مخلوق من امرأة من عباد الله ، ولهذا قال :" ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " أي لا يعجزه شيء ولا يكرنه ولا يؤوده بل هو القدير الفعال لما يشاء " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقوله :" وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " هو من تمام كلام عيسى لهم في المهد ، أخبرهم أن الله ربه وربهم وإلهه وإلههم ، وأن هذا هو الصراط المستقيم
قال الله تعالى :" فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم فيه
فمن قائل من اليهود : إنه ولد زنية ، واستمروا على كفرهم وعنادهم
وقابلهم آخرون في الكفر فقالوا : هو الله ، وقال آخرون : هو ابن الله
وقال المؤمنون : هو عبد الله ورسوله ، وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وهؤلاء هم الناجون المثابون والمؤيدون المنصورون ، ومن خالفهم في شيء من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون ، وقد توعدهم العي العظيم الحكيم العليم بقوله :" فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم "
قال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل ، أنبأنا الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عمير بن هانئ ، حدثني جنادة بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل "
قال الوليد : فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن عمير ، عن جنادة : وزاد :" من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء "
وقد رواه مسلم عن داود بن رشيد ، عن الوليد ، عن جابر به ومن طريق أخري عن الأوزاعي به
باب بيان أن الله تعالى منزه عن الولد
تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً
وقال تعالى في آخر سورة مريم :" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا " شيئاً عظيماً من القول وزوراً " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا "
فبين أنه تعالى لا ينبغي له الولد لأنه خالق كل شيء ومالكه ، وكل شيء فقير إليه ، خاضع ذليل لديه وجميع سكان السموات والأرض عبيده ، هو ربهم لا إله إلا هو لا رب سواه كما قال تعالى :" وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير "
فبين أنه خالف كل شيء فكيف يكون له ولد ، والولد لا يكون إلا بين شيئين متناسبين ، والله تعالى لا نظير له ولا شبيه ولا عديل له ، فلا صاحبة له ، فلا يكون له ولد كما قال تعالى :" قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد " يقرر أنه الأحد الذي لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله " الصمد " وهو السيد الذي كمل علمه وحكمته ورحمته وبلغ جميع صفاته " لم يلد " أي لم يوجد منه ولد " ولم يولد " أي ولم يتولد عن شيء قبله " ولم يكن له كفوا أحد " أي وليس له عدل ولا مكافئ ولا مساو فقطع النظير المداني والأعلى والمساوي ، فانتفى أن يكون له ولد ، إذ لا يكون الولد إلا متولداً بين شيئين متعادلين أو متقاربين ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً
وقال تبارك وتعالى وتقدس :" يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا "
ينهى تعالى أهل الكتاب ومن شابههم عن الغلو والإطراء في الدين وهو مجاوزة الحد ، فالنصارى لعنهم الله غلوا وأطروا المسيح حتى جاوزوا الحد
فكان الواجب عليهم أن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله وابن أمته العذراء البتول التي أحصنت فرجها فبعث الله الملك جبريل إليها فنفخ فيها من أمر الله نفخة حملت منها بولدها عيسى عليه السلام والذي اتصل بها من الملك هي الروح المضافة إلى الله إضافة تشريف وتكريم ، وهي مخلوقة من مخلوقات الله تعالى كما يقول : بيت الله وناقة الله وعبد الله ، وكذا روح الله أضيفت إليه تشريفاً لها وتكريماً وسمى عيسى بها لأنه كان بها من غير أب وهي الكلمة أيضاً التي عنها خلق وبسببها وجد كما قال تعالى :" إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " وقال تعالى :" وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون "
وقال تعالى :" وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون "
فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى عليهن لعائن الله ، كل من الفريقين ادعوا على الله شططاً وزعموا أن له ولداً ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ، وأخبر أنهم ليس لهم مستند فيما زعموه ولا فيما ائتفكوه ، إلا مجرد القول ومشابهة من سبقهم إلى هذه المقالة الضالة تشابهت قلوبهم
وذلك أن الفلاسفة عليهم لعنة الله زعموا أن العقل الأول صدر عن واجب الوجود الذي يعبرون عنه بعل العلل والمبدأ الأول ، وأنه صدر عن العقل الأول عقل ثان ونفس وفلك ، ثم صدر عن الثاني كذلك حتى تناهب العقول إلى عشرة والنفوس إلى تسعة والأفلاك إلى تسعة ، باعبارات فاسدة ذكروها واختيارات باردة أوردوها ولبسط الكلام معهم وبيان جهلهم وقلة عقلهم موضع آخر
وهكذا طوائف من مشركي العرب زعموا لجهلهم أن الملائكة بنات الله وأنه صاهر سروات الجن فتولد منها الملائكة تعالى الله عما يقولون وتنزه عما يشركون كما قال تعالى : " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون " وقال تعالى :" فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * ما لكم كيف تحكمون * أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين * فاتوا بكتابكم إن كنتم صادقين * وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون * سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين "
قال تعالى :" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين "
وقال تعالى في أول سورة الكهف وهي مكية :" الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا "
وقال تعالى :" قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون "
فهذه الآيات المكيات الكريمات تشمل الرد على سائر فرق الكفرة من الفلاسفة ومشركي العرب واليهود والنصارى الذين ادعوا وزعموا بلا علم أن لله ولدا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً
ولما كانت النصارى عليهم لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة من أشهر من قال بهذه المقالة ذكروا في القرآن كثيراً للرد عليهم وبيان تناقضهم وقلة علمهم وكثرة جهلهم ، وقد تنوعت أقوالهم في كفرهم ، وذلك أن الباطل كثير التشعب والاختلاف والتناقض
وأما الحق فلا يختلف ولا يضطرب قال الله تعالى :" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " فدل على أنه الحق يتحد ويتفق والباطل يختلف ويضطرب فطائفة من ضلالهم وجهالهم زعموا أن المسيح هو الله تعالى ، وطائفة قالوا هو ابن الله ، عز الله وجل وطائفة قالوا هو ثالث ثلاثة جل الله
قال الله تعالى في سورة المائدة :" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير " فأخبر تعالى عن كفرهم وجهلهم وبين أنه الخالق القادر على كل شيء وأنه رب كل شيء ومليكه وإلهه وقال في أواخرها :" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون "
حكم تعالى بكفرهم شرعا وقدرا ، فأخبر أن هذا صدر منهم مع أن الرسول إليهم هو عيسى ابن مريم ، وقد بين لهم أنه عبد مربوب مخلوق مصور في الرحم داع إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وتوعدهم على خلاف ذلك بالنار وعدم الفوز بدار القرار والخزء في الدار الآخرة والهوان والعار ، ولهذا قال :" إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار "
ثم قال : " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد " قال ابن جرير وغيره : المراد بذلك قولهم بالأقانيم الثلاثة : أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب والابن ، على اختلافهم في ذلك ما بين المليكية واليعقوبية والنسطورية ، عليهم لعائن الله كما سنبين كيفية اختلافهم في ذلك ومجامعهم الثلاثة في زمن قسطنطين ابن قسطس ، وذلك بعد المسيح بثلاثمائة سنة وقبل البعثة المحمدية بثلاثمائة سنة
ولهذا قال تعالى :" وما من إله إلا إله واحد " أي وما من إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا كفؤ له ولا صاحبة له ولا ولد ، ثم توعدهم وتهددهم فقال :" وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " ثم دعاهم برحمته ولطفه إلى التوبة والاستغفار من هذه الأمور الكبار والعظائم التي توجب النار فقال :" أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم "
ثم بين حال المسيح وأمه وأنه عبد رسول وأمه صديقة ، أي ليست بفاجرة كما يقول اليهود لعنهم الله ، وفيه دليل على أنها ليست بنبية كما زعمه طائفة من علمائنا وقوله :" كانا يأكلان الطعام " كناية عن خروجه منهما كما يخرج من غيرهما ، أي ومن كان بهذه المثابة كيف يكون إلهاً ! تعالى الله عن قولهم وجهلهم علواً كبيراً
وقال السدي وغيره ، المراد بقوله :" لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " زعمهم في عيسى وأمه أنهما الإلهان مع الله ، يعني كما بين تعالى كفرهم في ذلك بقوله في آخر هذه السورة الكريمة :" وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "
يخبر تعالى أنه يسأل عيسى ابن مريم عليه السلام يوم القيامة على سبيل الإكرام له والتفريغ والتبويخ لعابديه ممن كذب عليه وافترى وزعم أنه ابن الله ، أو أنه الله أو أنه شريكه ، تعالى الله عما يقولون ، فيسأله وهو يعلم أنه لم يقع منه ما يسأله عنه ولكن لتوبيخ من كذب عليه فيقول له :" أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك " أي تعاليت أن يكون معك شريك " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " أي ليس هذا يستحقه أحد سواك " إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " وهذا تأدب عظيم في الخطاب والجواب " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " أي ما قلت غير ما أمرتني عليه حين أرسلتني إليهم وأنزلت علي الكتاب الذي كان يتلى عليهم ثم فسر ما قاله لهم بقوله :" أن اعبدوا الله ربي وربكم " أي خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني " أي رفعتني إليك حين أرادوا قتلي وصلبي فرحمتني وخلصتني منهم وألقيت شبهي على أحدهم حتى انتقموا منه كان ذلك " كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد "
ثم قال على وجه التفويض إلى الرب عز وجل والتبري من أهل النصرانية :" إن تعذبهم فإنهم عبادك " أي وهم يستحقون ذلك " إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وهذا التفويض والإسناد إلى المشيئة بالشرط لا يقتضي وقوع ذلك ، ولهذا قال :" فإنك أنت العزيز الحكيم " ولم يقل الغفور الرحيم
وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قام بهذه الآية الكريمة ليلة حتى أصبح :" إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وقال :" إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئاً " وقال :" وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون * وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون "
وقال تعالى :" لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار * خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار "
وقال تعالى :" قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين * سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون "
وقال تعالى :" وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا "
وقال تعالى :" قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد "
وثبت في الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" يقول الله تعالى : شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، يزعم أن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم ين لي كفواً أحد "
وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولداً وهو يزرقهم ويعافيهم "
ولكن ثبت في الصحيح أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ :" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "
وهكذا قوله تعالى :" وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير "
وقال تعالى :" نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " وقال تعالى :" قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " وقال تعالى :" فمهل الكافرين أمهلهم رويدا "
ذكر منشأ عيسى ابن مريم عليهما السلام ومرباه في صغره وصباه
وبيان بدء الوحي إليه من الله تعالى
قد تقدم أنه ولد ببيت لحم قريبا من بيت المقدس
وزعم وهب بن منبه أنه ولد بمصر وأن مريم سافرت هي ويوسف بن يعقوب النجار وهي راكبة على حمار ليس بينهما وبين الإكاف شيء
وهذا لا يصح ، والحديث الذي تقدم ذكره دلياط على أن مولده كان ببيت لحم ، ذكرنا ، ومهما عارضه فباطل
وذكر وهب بن منبه أنه لما خرت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن الشياطين حارت في سبب ذلك حتى كشف لهم أبليس الكبير أمر عيسى فوجدوه في حجر أمه والملائكة محدقة به ، وأنه ظهر نجم عظيم في السماء وأن ملك الفرس أشفق من ظهروه فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا : هذا لمولد عظيم في الأرض ، فبعث رسالة ومعهم ذهب ومر ولبان هدية إلى عيسى ، فلما قدموا الشام سألهم ملكهم عما أقدمهم فذكروا له ذلك ، فسأل عن ذلك الوقت فإذا قد ولد فيه عيسى ابن مريم ببيت المقدس واشتهر أمره بسبب كلامه في المهد ، فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله إذا رسل ملك الشام إنما جاءوا ليقتلوا ولدك فاحتملته فذهبت به إلى مصر ، فأقامت به حتى بلغ عمره اثنتي عشرة سنة ، وظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره فذكر منها الدهقان الذي نزلوا عنده افتقد مالاً من داره وكانت داره لا يسكنها إلا الفقراء والضعفاء والمحاويج فلم يدر من أخذها ، وعز ذلك على مريم عليها السلام وشق على الناس وعلى رب المنزل وأعياهم أمرها ، فلما رأى عيسى عليه السلام ذلك عمد إلى رجل أعمى وآخر مقعد من جملة من هو منقطع إليه فقال للأعمى : احمل هذا المقعد وانهض به فقال : إني لا أستطيع ذلك فقال : بلى كما فعلت أنت وهو حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة في الدار فلما قال ذلك صدقاه فيما قال وأتيا بالمال فعظم عيسى في أعين الناس وهو صغير جداً
ومن ذلك أن ابن الدهقان عمل ضيافة للناس بسبب طهور أولاده ، فلما اجتمع الناس وأطعمهم ثم أراد أن يسقيهم شراباً - يعني خمراً - كما كانوا يصنعون في ذلك الزمان لم يجد في جراره شيئاً فشق ذلك عليه ، فلما رأى عيسى ذلك منه قام فجعل يمر على تلك الجرار ويمر يده على أفواههم فلا يفعل بجرة منها ذلك إلا امتلأت شراباً من خيار الشراب ، فعتعجب الناس من ذلك جداً وعظموه وعرضوا عليه وعلى أمه مالاً جزيلاً فلم يقبلاه وارتحلا قاصدين بيت المقدس والله أعلم
وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا عثمان بن ساج وغيره ، عن موسى ابن وردان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، وعن مكحول عن أبي هريرة قال : إن عيسى ابن مريم أول ما أطلق الله لسانه بعد الكلام الذي تكلم به وهو طفل ، فمجد الله تمجيداً لم تسمع الآذان بمثله لم يدع شمساً ولا قمراً ولا جبلاً ولا نهراً ولا عيناً إلا ذكره في تمجيده فقال : اللهم أنت القريب في علوك ، المتعال في دنوك ، الرفيع على كل شيء من خلقك ، أنت الذي خلقت سبعاً في الهواء بكلماتك مستويات طباقاً أجبن وهي دخان من فرقك فأتين طائعات لأمرك ، فيهن ملائكتك يسبحون قدسك لتقديسك وجعلت فيهن نوراً على سواد الظلام وضياء من ضوء الشمس بالنهار ، وجعلت فيهن الرعد المسبح بالحمد ، فبعزتك يجلو ضوء ظلمتك وجعلت فيهن مصابيح يهتدي به في الظلمات الحيران ، فتباركت اللهم في مفطور سماواتك وفيما دحوت من أرضك دحوتها على الماء فمسكتها على تيار الموج الغامر ، فأذللتها إزلال التظاهر ، فذل لطاعتك صعبها واستحيا لأمرك أمرها وطبعت بعزتك أمواجها ، ففجرت فيها بعد البحور الأنهار ومن بعض الأنهار الجداول الصغار ومن بعد الجداول ينابيع العيون الغزار ، ثم أخرجت منها الأنهار والأشجار والثمار ثم جعلت على ظهرها الجبال فوتدتها أوتاداً على ظهر الماء ، فأطاعت أطوادها وجلمودها
فتباركت اللهم ! فمن يبلغ بنعته نعتك أم من يبلغ صفتك ؟ تنشر السحاب وتفك الرقاب وتقضي الحق وأنت خير الفاصلين ، لا إله إلا أنت سبحانك أمرت أن نستغفرك من كل ذنب ، لا إله إلا أنت سبحانك سترت السموات عن الناس ، لا إله إلا أنت سبحانك إنما يخشاك من عبادك الأكياس ، نشهد أنك لست بإله استحدثناك ، ولا رب يبيده ذكره ، ولا كان معك شركاء فندعوهم ونذرك ، ولا أعانك على خلفنا أحد فنشك فيك ، نشهد أنك أحد صمد لم تلد ولم تولد ، ولم يكن لك كفواً أحد
وقال إسحاق بن بشر ، عن جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلاً حتى بلغ ما يبلغ الغلمان ثم أنطقه الله بعد ذلك الحكمة والبيان فأكثر اليهود فيه وفي أمه من القول ، وكانوا يسمونه ابن البغية وذلك قوله تعالى :" وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما "
قال : فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتاب ، فجعل لا يعلمه المعلم شيئاً إلا بدره إليه ، فعلمه أبا جاد فقال عيسى ، ما أبو جاد ؟ فقال المعلم : لا أدري فقال عيسى : كيف تعلمني مالا تدري فقال المعلم : إذن فعلمني فقال له عيسى : فقم من مجلسك فقام فجلس عيسى مجلسه فقال : سلني ؟ فقال المعلم : فما أبو جاد ؟ فقال عيسى : الألف آلاء الله والباء بهاء الله والجيم بهجة الله وجماله فعجب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أبا جاد
ثم ذكر أن عثمان سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فأجابه على كل كلمة بحديث طويل موضوع لا يسأل عنه ولا يتمادى !
وهكذا روى ابن عدي من حديث إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن مسعود ، عن مسعر بن كدام عن عطية ، عن أبي سعيد ، رفع الحديث في دخول عيسى إلى الكتاب وتعليمه المعلم معنى حروف أبي جاد وهو مطول لا يفرح به
ثم قال ابن عدي : وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد لا يرويه غير إسماعيل وروى ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة قال : كان عبد الله بن عمر يقول : كان عيسى ابن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان فكان يقول لأحدهم : تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك ؟ فيقول : نعم فيقول : خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها أطعميني ما خبأت لي فتقول : وأي شيء خبأت لك ؟ فيقول :كذا وكذا فتقول له : من أخبرك ؟ فيقول : عيسى ابن مريم ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوا عليهم ، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم فسمع ضوضاءهم في بيت فسأل عنهم فقالوا : إنما هؤلاء قردة وخنازير فقال : الله كذلك فكانوا كذلك رواه ابن عساكر
وقال إسحاق بن بشر ، عن جويبر ، ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاماً من الله ، ففشا ذلك في اليهود وترعرع عيسى ، فهمت به بنو إسرائيل ، فخافت أمه عليه ، فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر ، فذلك قوله تعالى :" وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين "
وقد اختلف السلف والمفسرون في المراد بهذه الربوة التي ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار ومعين ، وهذه صفة غريبة الشكل ، وهي أنها ربوة وهو المكان المرتفع من الأرض الذي أعلاه مستو يقر عليه وارتفاعه متسع ، ومع علوه فيه عيون الماء المعين ، وهو الجاري السارح على وجه الأرض فقيل : المراد المكان الذي ولدت فيه المسيح وهو نخلة بيت المقدس ، ولهذا " ناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا " وهو النهر الصغير في قول جمهور السلف ، وعن ابن عباس بإسناد جيد أنهار دمشق فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق وقيل ذلك بمصر كما زعمه من زعمه من أهل الكتاب ومن تلقاه عنهم والله أعلم
وقيل هي الرملة
وقال إسحاق بنبشر : قال لنا إدريس عن جده وهب بن منبه ، قال : إن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا قال فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار حتى جاء لهما إيليا وأقام بها حتى أحدث الله له الإنجيل وعلمه التوراة وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الأسقام والعلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم وتحدث الناس بقدومه وفزعوا لما كان يأتي من العجائب ، فجعلوا يعجبون منه فدعاهم إلى الله ففشا فيهم أمره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق